ظاهرة النبوءة



الكلام هنا عن النبوءة بمفهومها العام وليس بالمعنى الديني. ظاهرة النبوءة أو ما يسمى أيضا بالوساطة الروحية  ظاهرة طبيعية في جنس الإنسان، وهي معروفة منذ القديم ، ولولاها ما علم الإنسان بوجود الروح ولا خطر يوما بباله أن الإنسان يمكنه أن يحيا حياة جديدة بعد وفاته. وقد حظيت الوساطة الروحية في القرنين الأخيرين باهتمام كبير، وأجريت حولها أبحاث علمية كثيرة نشرت في مجلات متخصصة وفي كتب متعددة بلغات مختلفة.


المنقولات الروحية

مما يثير الإنتباه في أمر النبوءة ظاهرة المنقولات الروحية، وهي أن يختفي الشيء فجأة من مكان ويظهر بعد وقت وجيز في مكان آخر قد يبعد عنه بآلاف الكلمترات. ويمكن للشيء المنقول أن يخترق جميع الحواجز، سواء كان في صندوق مغلق أو حجرة موصدة أو في باطن الأرض. وحسب ما يروى فإن كل شيء يمكن نقله بهذه الطريقة، الأجسام الصلبة والسوائل والغازات والنباتات والحيوانات والإنسان والصوت والضوء والنار والبرودة والحرارة والكهرباء وغير ذلك. في القرآن الكريم إشارات إلى هذه الظاهرة، نجد مثلا: "كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا " "وهزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" "بل رفعه الله اليه" "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها" "قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم" " وهل أتاك حديث موسى إذ رآى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى" "اقتربت الساعة وانشق القمر". وغير ذلك كثير.

الكائنات الفضائية  (UFO, OVNI)

أما الأطباق أو الصحون الطائرة التي يراها بعض الناس من حين لآخر ويعتقدون أنها مركبات لكائنات فضائية فما هي في الحقيقة حسب رأيي إلا صور مكبرة لأحد صحون المطبخ أو لجسم مضيء عادي، وهذه الصور لا وجود لها في الأفق، وإنما هي موجودة في مجال رؤية الرائى، كالصورة التي تظهر في المرآة، ولذلك يؤكد بعض الملاحظين أنهم رأوها ويؤكد آخرون أنهم لم يروا شيئا، ويمكن لمن يراها أن يلتقط لها صورة بالكامرا ولكنها لا تظهر في الرادارات. هذه الظاهرة موجودة منذ القدم وتذكرنا مثلا بموسى اذ رآى نارا وبانشقاق القمر. ولقد رآه في الأفق المبين.
والذي يهمنا حاليا في الإنتقال الروحي هو كونه يفسر كثيرا من الأمور التي ظلت ألغازا لقرون عديدة. جميع التجليات عندنا من فعل أرواح بشرية باستعمال طاقة عند الوسيط  تحمل أسماء مستعارة، كالملائكة والجن وغير ذلك ، فالكائنات الذكية المزعومة التي يعتقدون أنها قادمة من الفضاء مثلا إنما هي أرواح بشرية تحاول إرضاء من يعتقد بذلك لغرض ما. والتناسخ كذلك فكرة وهمية ترتكز على فهم خاطئ لعالم الروحانيات.

الخيمياء ( الكيمياء القديمة)

كثير من القدامى كانوا يعتقدون أنه من الممكن تحويل بعض المعادن الرخيصة كالقصدير والرصاص إلى معادن ثمينة كالذهب أو الفضة بطريقة كيميائية طبيعية، وأن السر في ذلك يرجع إلى استعمال مادة غريبة يحضرونها تسمى بالإكسير. وقد اتضح الآن مع تطور العلوم أن مثل هذا التحويل غير ممكن بالوسائل الطبيعية البسيطة التي كانت متوفرة آنذاك. وقد تفطن العلامة ابن خلدون لذلك حيث قال في المقدمة:" والذي يجب أن يعتقد في أمر  الكيمياء وهو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعة " .
ورأيي أن ما يحدث في مثل هذه الإستحالات هو في الحقيقة استبدال مادة بمادة أخرى موجودة في مكان ما، يتم نقلهما روحيا. ومثل هذا قد وقع كثيرا، تحدثت عنه كتب العرب وغيرهم، انظر مثلا كتاب جامع كرامات الأولياء للنبهاني تجد فيه أمثلة متعددة عما يسمونه بانقلاب الأعيان، كالخمر يصبح ماء أو حليبا، والحجارة تنقلب حلوى في فم آكلها ، والبيضة الطازجة تتحول إلى بيضة ناضجة حارة في يد الوسيط، والدجاجة "تبعث حية" وتطير بعد طبخها ومثل ذلك كثير لا حصر له. ومنه معجزات الأنبياء والرسل من غير استثناء الرسول مسيلمة الذي كان يقوم بخوارق مدهشة. وفي القرآن الكريم: "وإذ تخلق من الطين كهيأة الطير بإذني فتنفخ فيه فيكون طائرا بإذني" "قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا". من الوسطاء مثلا من يأكل قطعا كثيرة من حديد وزجاج وغيره فلا تؤذيه (تختفي بمجرد وضعها في فمه أو تنقلب الى شيء آخر)، ومنهم من يشرب الماء المغلى أو ماء البحر فينقلب فى فمه ماء باردا عذبا، ومنهم من يحتسي السم فلا يضره. ومنهم من يأكل فلا يشبع، ومنهم من يمكث شهورا أو سنين لا يأكل شيئا ، ومنهم من يستسقي في يوم صحو فتنزل أمطار الرحمة . بل إن منهم من كان يبيع المطر بالدراهم. وإذا تأملت الخوارق المذكورة في كتاب النبهاني  أوغيره تجد أن معظمها يتم بفضل ظاهرة النقل الروحي، بل يحتمل أن تكون كلها كذلك.
أصحاب الخيمياء أناس يعتكفون على التجارب الكثيرة من أجل الحصول على المستحيل فتنموا بتلك الرياضات ملكة الوساطة عند بعضهم فيحصل "المستحيل"، وكذلك بعض الناس يؤدي بهم سهر الليالي في مراقبة النجوم إلى أن يصبحوا" منجمين" من أجل ذلك كان بعض القدامى يعتقدون أن للنجوم أرواحا آلهة.

حمل العذراء

من الأمور التي احتارت فيها العقول أيضا كون المرأة تصبح حاملا وهي عذراء لم يمسسها بشر أو عجوز في سن اليأس منذ زمان. ومثل هذا قد حدث كثيرا تحدثت عنه الكتب المقدسة وغيرها، فوجدنا له تفسيرا شافيا بظاهرة المنقولات الروحية، فتمثل لها بشرا سويا ولقحها رغم اعتراضها بماء رجل ما. تأمل فقد أطلعتك على سر عظيم."إن هذا لهو القصص الحق".

الكتابة التلقائية

كثير من الوسطاء حصلوا على كتابات ورسائل لأناس ماتوا وعلى رسوم لفنانين مشهورين وبتوقيعهم، منهم من توفي منذ قرون. و ربما يتبادر إلى الذهن أن أرواح أولئك الفنانين هم الذين أنجزوا تلك الرسوم، ربما يكون ذلك صحيحا في القليل الناذر بالنسبة لفنان حديث العهد بالوفاة، أما بالنسبة لمن توفي منذ قرون، فإن الرسوم أو الكتابات في نظري لا تكون إلا نسخا أو تقليدا لرسوم موجودة في مكان ما، أنجزت وجلبت بطريقة غير معتادة. ولكن كثيرا من النفوس المستترة تميل، أوتضطر إلى انتحال شخصية حقيقية أو وهمية مسايرة في الغالب الإعتقادات السائدة، وذلك لأسباب مختلفة منها تسهيل الإتصال وفعالية الإقناع وقضاء مصلحة ما وغير ذلك . ومن بين الشخصيات المنتحلة فنانون وكتاب وأولياء وملائكة وآلهة وجن وكائنات فضائية إلى غير ذلك حسب الإعتقادات كما ذكرت، والكتابات أوالرسوم المحصل عليها يمكن أن نختزلها في نوعين، نوع ينجز بيد الوسيط بسرعة فائقة، ونوع تلقائي: تظهر الكتابة أوالرسوم على اللأوراق أو الجدران أو غير ذلك بصفة تلقائية وكأنها كتبت بيد خفية لا ترى. اليد نسخة ليد الوسيط أو غيره، والقلم نسخة من قلم موجود بمكان ما، والمداد ينتقل بالفعل عند ملامسته الورق . "فتمثل لها بشرا سويا".

"وإن عليكم لحافظين"

يبدوا واضحا من خلال الكثير من التجليات أن الموت وإن كان يؤدي إلى إتلاف الجسم وتلاشيه، فإن الروح بخلاف ذلك يعيش حياة جديدة، يحيا ويرزق (بكيفية خاصة)، ويتطور لا شك في ذلك، ويحتفظ بجميع قواه العقلية، بل ربما يصبح أصفى ذهنا وأكثر حكمة وأشد دهاء، وذلك هو الخلق الجديد الذي أشار اليه القرآن الكريم، إلا أن صعوبة الإتصال تمنعه من المشاركة الفعالة في الحياة العادية. أما المشاركة الخفية، فإن الوحي يخبرنا بذلك التماسك الفطري الذي يوجد بين ظاهر الإنسان وباطنه في قوله تعالى "إن كل نفس لما عليها حافظ ". "وإن عليكم لحافظين". "له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله". "ويرسل عليكم حفظة، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، أي كل إنسان يأوي "ملائكة" يعيشون معه باستمرار، ويساهمون في حفظه، وعند الممات يزول الحجاب، فيستقبله أولئك الحفظة أو غيرهم ليهدئوا من روعه ويعينوه على الدخول في حياته الجديدة، وهم لا يفرطون ولا يتهاونون "ونحن أقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون" وكل ذلك من الطبيعة البشرية فما الآخرة إلا امتداد طبيعي للأولى.  .

تجليات الروح

الروح هو صانع المعجزات، وعماد جميع الأديان وهو السبب الرئيسي لوجودها واستمرارها، من زمن الأهرام وما قبله إلى زمننا هذا ، وفي القرآن الكريم خير دليل على ذلك : "وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم  فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" .
ويعتمد الروح في جميع تجلياته على طاقة خاصة توجد لذى الوسيط، تزداد هذه الطاقة غزارة مع المواضبة على استهلاكها كما هو الشأن بالنسبة للحليب عند المرضعة . في بعض الحالات الناذرة تصبح طاقة الوسيط غزيرة إلى حد كبير فيستطيع الروح الملازم له أن يعمل بها أشياء تبدوا خارقة للعادة وهي طبيعية في جنس الإنسان . يعتبرها القرآن الكريم آيات أي علامات تدل على عظمة الخالق ووحدانيته يؤيد بها رسله وأولياءه ولكن لا يفرق بينها وبين الآيات الطبيعية المألوفة.
أما تصرفات الروح وحركاتها فهي غير معتادة تماما بالنسبة إلينا، فهو مثلا يستطيع أن ينجز أعمالا تبعد عن الوسيط بآلاف الكلمترات، وفي نفس الوقت يبقى مرتبطا به يستمد منه طاقته ويتحدث إلى الحاضرين عما يراه أو يفعله وكأنه في المكانين في آن واحد، وكأن المسافة غير موجودة بالنسبة إليه .
كثيرا ما تحدث التجليات من غير علم الوسيط، وأحيانا عكس إرادته، وبالرغم من أن كثيرا من التجليات تأتي موافقة لإرادة الوسيط وتصريحاته فإنها لا تنجز إلا بارادة وفعل الروح المرافق له، إذ من السهل عليه في هذه الحالة أن يوحي إلى الوسيط بما يشاء، أوأن يتحدث إليه ويتفاهم معه من غير أن يشعر بذلك الحاضرون، يحصل بينهما مع الممارسة نوع من التوافق والتعاون الدائمين، مما يجعل كل واحد منهما كثيرا ما يتصرف إرضاء لرغبة الآخر. ورغم ذلك الرباط الوثيق فإن لكل واحد منهما شخصيته المستقلة .
أنواع التجليات كثيرة ولكنها تبدوا كلها من طبيعة واحدة رغم تعدد مظاهرها وأسبابها، لا فرق بين المعجزة منها أو الكرامة أو غير ذلك، فالكل من آيات الله، وإنما ينصر الله المعجزات والكرامات لما تنطوي عليه من الخير والمصلحة وشرف القصد، ولولا ذلك ما انتصرت مهما كانت قوتها، مثلها في ذلك مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة . قال ابن خلدون في المقدمة: "وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي … وإن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين. والنبي عندهم مجبول على التصرف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك، والخارق عندهم يقع للنبي سواء كان للتحدي أو لم يكن، وهو شاهد بصدقه من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق، فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين، ولا يكون التحدي جزأ من المعجزة، ولم يصح فارقا لها عن السحر والكرامة، وفارقها عندهم عن السحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه".

ملكة النبوءة

ملكة الوساطة أو النبوءة لا علاقة لها بذكاء الوسيط ولا بثقافته ولا بصحته النفسية، ولكنها تبدوا في سن مبكرة، وتكثر عند اليتامى والمستضعفين عناية من الله وحفظا، "وهل ترزقون أو تنصرون إلا بضعفائكم" (حديث شريف). وحسب ما يروى عن الأنبياء فإن معظمهم كانوا يتامى. تأمل كذلك طفولة الأولياء رضي الله عنهم وطفولة الوسطاء المعروفين وبعض الشخصيات الروحية الكبيرة مثل غاندي وغيره ممن غيروا مجرى التاريخ.  وثمة ظروف ورياضات تساعد على نمو الوساطة كالجوع أو الصوم "ليلة القدر خير من ألف شهر" والسهر والصلوات والعزلة والصمت ومعاشرة الدوائر الروحانية وغير ذلك  " وتزداد طاقة الوساطة إذا كان الوسيط مع جماعة من الناس ولا سيما إذا كان من بينهم وسطاء، ولذلك تجد أن صلاة الجماعة خير من صلاة الفذ مثلا. تأمل كذلك صلوات الأعياد والإستسقاء والحج وكيف يتم اختيار المريدين والحواريين.

اختراق المادة للمادة

لقد أصبح الآن من الواضح المؤكد أن طاقة الوساطة تكسب المادة خاصية الشفافية حيث تجعلها قادرة على اختراق مادة أخرى بغير احتكاك. ومن المستبعد جدا أن مثل هذه الظاهرة يمكن الحصول عليها بطريقة أخرى غير الطريقة الروحانية. من الوسطاء مثلا من يضرب رأسه بآلة حادة فترى الدم ينبجس منه ولا يبقى بعد الغسل أثر لأي جرح، ومنهم من يقوم بعمليات جراحية مستعملا يديه فقط لاستخراج الحصى من الكلي أو غير ذلك ولا يبقى بعد الغسل أي أثر للعملية، يبدوا أحيانا وكأنه يستعمل سكينا أوآلة لا ترى، ومنهم من يدخل في فمه سيوفا طويلة أو يدق في جسمه مسامير غليظة ثم يسحبها فلا تؤذيه ولا يبقى لذلك أثر، ومنهم من يفتح الباب الموصودة  بغير مفتاح، ومنهم من يوثق بالسلاسل فتسقط عنه، وكل هذا يفسر باختراق مادة لمادة أخرى. قال ابن عربي ومنهم من يمشي في الهواء في حال مشيه في الهواء ومعنى ذلك أنه يمشي طائرا في الهواء وهو يخترقه من غير احتكاك.

من الناس من يجادل في هذه الأمور بغير علم، فيختزلون كل شيء في الدجل والشعوذة ويتهمون الناس بالسذاجة والجهل . لا شك أن الدجل والشعوذة أشياء موجودة وكثيرة جدا في أمور الغيبيات، والعلم هو سيد الموقف، وكلما زادت المعرفة الصحيحة بالأمور الروحانية كلما ضعف مجال الدجل والشعوذة ، وبالفهم الصحيح تزول جميع الحواجز ولا يبقى للدجل أو الشعودة سلطان، مثلا لو كان مؤلف كتاب الإبريز مطلعا على هذه الأمور لما سقط في شباك "الشيخ" عبد العزيز الدباغ.

ومن جهة أخرى يبدوا أنه من مصلحة الكثير من الناس الإبتعاد عن الخوض في هذه الأمور، ففي كثير من الحالات يكون جهلها خير من معرفتها، وغالبا ما يكون تجاهلها وعدم الإعتراف بوجودها خير من الإهتمام بها.


 "وما يذكرإلا أولوا الألباب" .



إدريس البوكيلي